الجمعة، 27 مايو 2011

لستُ عِلمانيا .. يبدو أنني سلفي




عندما تنطلق العلمانية من فكرة فصل الدين و المعتقدات الدينية عن السياسة و الحياة العامة أو تكون في أحد تعريفاتها هي رفض أية سلطات تشريعية أو تنفيذية في الدين تتدخل بحياة الفرد و أن الدين في العلمانية ينتهي عندما يخرج الفرد من المسجد أو من الكنيسة ، فإن هذا يجعلني أتوقف كثيرا و أحاول أن أسأل نفسي كمسلم هل هذا المفهوم ينطبق علينا نحن المسلمين و هل ديننا عبادة فقط أم عبادة و شريعة ، و هل علىَ في هذه الحالة أن أتغاضى عن تطبيق الشريعة التي أمرني بها الله سبحانه و تعالى و أن أستسلم للاجتهاد البشري مهما تعارض مع ديني؟

و عندما يكون العلمانيون في أوطاننا العربية لا هم لهم إلا مهاجمة الدين جملة واحدة و ليس على الأقل أخذ الصالح منه من وجهة نظرهم و ترك الباقي فإني هنا لا أتساءل فقط و لكن حقا يصيبني الفزع و الخوف من أن يكون صمتي تقصيرا في حق نصرة ديني و أن يكون استسلامي لهذه الأفكار هو تفريط في مكون رئيسي لشخصيتي و عقيدتي .

و الفزع هنا ليس من مصطلح العلمانية مهما كان غريبا على فهمي و لكنه الفزع من فهم بني وطني لهذا المصطلح و استماتتهم في الدفاع عنه و كأن البشرية قد وصلت بعد طول ضلال إلى طريق الحق و الصواب و عليها التمسك به و الدفاع عنه دون تمحيص و دون أن يعتبر هذا فكرا بشريا قابلا للنقاش و المعارضة . و قد ظن ذلك أصحاب النظرية الاشتراكية و الشيوعية حتى انهارت و كفر بها أصحابها و ظل وفيا لها مجموعات بعيدة لا تريد أن تراجع نفسها .

و الدين الإسلامي كما أراه ليس الحدود و الجزية و أحكام الميراث و أحكام الولاية كما يتم التركيز عليه الآن بحيث تم إفراغ الدين من محتواه و بات ملخصاً في هذه الأحكام مع تنوع الاجتهادات الفقهية حولها ، و لكن الدين الإسلامي بالنسبة لي منهج حياة أودعه الله جل و علا في رسالته إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه و سلم ليكون سراجا للبشر جميعا ، و هذا المنهج يحتوي العبادات و المعاملات و الأخلاق و يرشدنا إلى أن أعبدوا الله ما لكم من إله غيره .

و هكذا عندما يكون الدين بأوامره و نواهيه جزءاً أساسيا من تكويني الفكري و الثقافي و يمثل عاملا ضاغطا على ضميري الإنساني فإنه من الصعب علي تقبل فكرة أن يتم فصل الدين عن السياسة و التي هي مجموعة القواعد و الأدوات و المؤسسات التي يتم تنظيم و إدارة شئون الدولة بها .

و السؤال هنا أي دين نقصد ؟ و يطرح هذا السؤال ببراءة أحياناً و بخبث في أحيانٍ كثيرة

قد لا يكون في الإسلام تصور محدد لشكل الدولة و كيفية اختيار الحاكم و عزله و كيفية تنظيم القوانين و درجات التقاضي و هو بالقطع ليس فيه تصور لما يجب إتباعه في أنظمة الزراعة و الصناعة و غيرها في الكثير من أمور الدولة و مصالح الناس . و لكن هل هذا عيب في الشريعة الإسلامية أم هي سعة كبيرة و إفساح لاجتهادات البشر بما يناسب كل عصر و مكان ؟

إن الجنس البشري منذ خلق آدم عليه السلام لم يهتم بشريعة بقدر اهتمامه بالشريعة الإسلامية و أفنى علماء كثيرون أعمارهم في استخراج الأسس و القواعد التي بني عليها الدين و استحدثوا علوما لم تعرف لها الدنيا مثيلا مثل علوم الحديث (الرواية و الجرح و التعديل و غيرها) ، كما عمل كثير من العلماء على استخراج القواعد الفقهية (مثل درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) حتى صارت القواعد الفقهية الإسلامية مرجعا قانونيا معتمدا لدى الأمم المتحدة ، و أسسوا لعلم عظيم هو أصول الدين و المبادئ العامة للشريعة التي هي الأساس في تعيين مصالح الناس طبقا لما قرره لهم خالقهم و هو أعلم بهم . أما الأحكام الفقهية فكان الأمر فيها واسعا و تعددت فيها الاتجاهات و المذاهب و هذه رحمة كبيرة بالناس و تفاعل كبير بين الأفهام المختلفة للوصول إلى مصالح العباد .

و إذا كان الأمر كذلك فإن الدولة التي أنشدها هي الدولة التي تفيد من هذه الهداية الإلهية و هذا الكم الهائل من الجهد البشري الحضاري الذي تم خلال الألف و الأربعمائة سنة الماضية ، و المقصود هنا هو القواعد العامة للشريعة الإسلامية و الحقوق التي قررتها الشريعة للإنسان لكونه إنسانا بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته ، و التي لو دقق المنصفون فيها لوجدوا فيها ما يفوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . كما أن المقصود أنه إذا كان هناك بديل إسلامي صالح لأي فكرة غربية في الاقتصاد على سبيل المثال فلم لا آخذ بها و أشجعها ما دامت ترفع عني حرج مخالفة شرع الله في الربا و الفوائد على سبيل المثال .

و المقصود أيضا أنه لا إكراه في الدين و لكن لا جهر بإثم أو معصية تضر المجتمع في أخلاقه و دينه ، فلا حاجة لنا مثلا أن تكتسب الدولة أموالا من شواطئ العراة في الغردقة و هو أمر لا يتنافى مع الدين فقط و لكنه يتنافى مع المروءة و الشهامة التي افتقدناها في مجتمعنا منذ زمن .

و لكن ما هو شكل الدولة التي أرتضيها ؟

لقد وصل الاجتهاد البشري نتيجة لما عاينه على مر العصور إلى الفكرة الديموقراطية (و هنا فليس لدى حرج من المصطلح) بأنها هي الإطار الأقل خطرا لإدارة حياة الناس و التحكم قدر الإمكان في منع الاستبداد و الظلم و إعلاء قيمة الاختيار الفردي و الجماعي لتقرير ما يريدونه في كيفية إدارة شئونهم ، كما أن الفكرة الليبرالية و التي تمنع طغيان الأغلبية على حقوق الأقلية هي فكرة جديرة بالاتباع ، و لو دققنا جيدا فسنجد أن الشريعة الإسلامية ليبرالية المفاهيم بمعنى إعلاء حقوق الفرد و صيانتها و ضمان عدم الاعتداء عليها ، و الفرق الوحيد هو أن الليبرالية مبنية على الفرد و الجماعة الرشيدة التي يمكنها تقرير الصالح العام للمجتمع ككل دون وجود مرجعية دينية ملزمة أو قواعد مجتمعية مسبقة ، أما الفكرة الإسلامية فتشدد على أن النفس البشرية كثيرا ما تجنح للخطأ نتيجة للهوى و أمر النفس بالسوء لذا فقد وضعت قواعد عامة قررها من خلق العباد و هو أعلم بهم و بمصلحتهم مجتمعين و أفرادا و هي قواعد أخلاقية لا تتغير بتغير الزمان و المكان .

أما المخاوف من تعارض الاجتهادات البشرية في الأمور الفقهية و الخوف من أن يفرض تيارا بعينه سيطرته على الحياة السياسية و يفرض من خلالها وجهة نظره في الأمور المختلفة ، فأنا ليس لدي هذا التخوف إطلاقاً نظرا لطبيعة الشعب المصري الغالبة و أن الصراع الفكري الحادث حاليا سينتج عنه فكرا وسطيا يرتضيه معظم الناس ، و أي تيار من التيارات الإسلامية الموجودة حاليا سيقوم بمجموعة من المراجعات و الموائمات الضرورية بعد أن وجد نفسه وجها لوجه مع المجتمع في معركة لم يعد لها    العدة .

و الأساس الحاكم لنا جميعا هو الاتفاق على دستور و قوانين تنظم التعايش السلمي المستقر بين أفراد المجتمع جميعا و تحفظ حقوق الفرد و المجتمع ككل و تحمي الدولة من استبداد الحاكم ، أما اختيارات الأفراد عند الانتخاب فهم فيها أحرار و عليهم تحمل نتيجة اختياراتهم فإن كانت صوابا استمروا عليها و إن كانت غير ذلك فليغيروها عند أول انتخابات و بحيث يكون التعبير السلمي عن الرأي هو الأساس و يُجرم إتباع أي صورة من صور فرض الرأي بالقوة .

أعلم أن كثيرا من السلفيين قد لا يتفقون معي فيما ذهبت إليه و لكني أزعم أن المنهج السلفي لا يشمل تيارا واحدا بل تيارات متنوعة بعضها متشدد كثيرا و بعضها ذو فكر وسطي و لكني أعلم أنهم جميعا حسني النية و لديهم رغبة قوية لإعلاء كلمة الدين .

و لأن السلفية ليست ديناً مستقلا ، كما أنها كمنهج ليست حكرا على جماعة فأنا سلفي لأني أريد الالتزام بديني دون إفراط أو تفريط ، كما أنني أريد دولة هويتها إسلامية و لكنها دولة قوية اقتصاديا و عسكريا ، دولة تأكل ما تزرع و تلبس ما تصنع ، و يعامل فيها الفرد فيها على أنه إنسان له كل الحقوق و عليه كل الواجبات ، و أن تُحترم فيها عقائد أصحاب الديانات المخالفة لي و أن يَحترم أصحاب هذه الديانات عقيدتي و أن من حقي أن تكون هوية الدولة تبعاً للأغلبية ، و أن يكون حق الترشيح لمناصب الولاية العامة للجميع و لكن من حقي على الجميع احترام اختياراتي .

لهذا فأنا في خلاف مع العلمانية لأني لا أستطيع فصل ديني عن حياتي ، و لكني مع كل اجتهاد بشري لتنظيم حياة الناس مادام لا يتعارض مع عقيدتي و الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها .

و أخيرا إذا تحاورنا جميعا بنية صافية تريد الوصول إلى الصواب و ليس الانتصار للنفس فسنجد أن هناك نقاط التقاء كثيرة و أن الاختلافات أو الخلافات يمكن تنظيمها بقواعد عامة ما دام الهدف لنا جميعا هو صالح البلاد و العباد .

(اللهم أرنا الحق حقا و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلا و ارزقنا اجتنابه)